أولا: السياق والمفهوم والأهمية
“يعد لفظ “مشروع” حديثا نسبيا داخل ثقافتنا” ،فلقد ظهر في بداية القرن العشرين، ويرتبط غالبا بدلالة إيجابية، فهو يشير إلى التطور والتقدم والسعي نحو الأفضل والأحسن، وهو رؤية معقلنة عزيزها وت وهادفة، تسعى لضمان الجودة المنشودة من التربية المدرسية وترصيدها، ومن ثم “فهو يعد من نمط “أنموذج ” paradigme” يرفع من قيمة النشاط الملموس والمنظم من طرف فرد مهووس بتحديد هدف ووسائل لبلوغ ذلك”.
وتفيد كلمة مشروع، ما ننوي القيام به وفعله وإنجازه في المستقبل، وتحيل كذلك إلى اقتران النية أو القصد اقترانا قويا بالعمل والفعل، “فالمشروع فكرة محورية في حياة الشخص ومكون من الطبيعة البشرية نفسها. هو الاستجابة الفكرية والسلوكية المتوقعة للفرد الذي يؤكد أن حياته لها مستقبل”،
خصوصا في ظل التحديات التي يطرحها التطور العلمي والتكنولوجي المتسارع في عصر الرقمنة، والذي يسعى لتكوين فرد، له مؤهلات معرفية ومهارية وعلمية عالية تؤهله للتكيف مع المحيط، وهذا رهان لا محالة يفرض تجديد أدوار المدرسة ووظيفتها، وتحديد موقعها في منظومة العمل والإنتاج، وتبني فكرة العمل بالمشروع، وصرف جهد أكبر لتكوين عقول راشدة، قادرة على الفهم الموضوعي للأشياء، وهكذا تكون المدرسة مؤسسة للتربية والتكوين منبثقة من مشروع مجتمعي .
وتشير كلمة مشروع في بعض الكتابات العلمية إلى “التفصيل المنظم والتنبؤ بما نعتزم القيام به فيما بعد، أي المخطط في الشكل المنطقي لما نتوقع” ،وقد تحيل أيضا إلى “تطبيق وإدماج مجموعة من المعارف والمهارات في تحقيق العمل”.
وهكذا، يبدو أن فكرة المشروع تقترن ببعدين اثنين متضافرين:
الأول زمني
قوامه ارتباط الفكرة بسيرورة زمنية ممتدة في المستقبل؛ بحيث يصور نية الإنجاز في مدة قصيرة أو طويلة حسب طبيعة المشروع وخصوصيته، لهذا يجب تكثيف الجهود والتدابير لأجل تهيئة جميع الأفراد للانخراط في المشروع بكل ثقة وجدية وحماس.
هذا الامتداد في الزمن يهدف إلى الرقي بالذات، والاستفادة من الإمكانات الحاضرة، لقطف ثمار ونتائج طيبة، نتوقع أن تفض ي إليها مجموعة من الوسائل، والأفعال، والمعطيات الكائنة، والمعتمدة.
الثاني ذاتي
حيث الانطلاق من استعدادات الذات الفردية والجماعية وقدراتها ومهاراتها وكفاياتها، لتأهيلها للفعل والمبادرة واتخاذ القرار وتحمل المسؤولية.
يعبر هذا البعد عن الإجراءات المتخذة لأجل تحقيق القصد المعلن، وفي هذا الجو يشعر الفرد بحجم المسؤولية تجاه نفسه وجماعته.
إن فكرة المشروع تتحدد من خلال تلك العلاقة الجدلية القائمة بين النية والعمل أو القصد والفعل، فلابد للمشروع أن ينبثق و يتبلور من رغبة ذاتية معبر عنها وطموحة، لتحقيق منفعة خاصة أو عامة،
لذلك فالمشروع هو “التعبير عن نية لاتخاذ إجراءات عملية لجعل التغير المطلوب في وضعية راهنة يحدث كليا أو جزئيا على الأقل بمبادرته”.
يفهم من هذا الكلام أن المشروع لابد أن يكون واقعيا و دالا وقابلا للتنفيذ، يلبي رغبات الفرد ويحقق تطلعاته ومصالحه، كما أنه فعل وإنجاز، وليس نشاطا معرفيا خالصا، ينفذ في سياق تعاقدي وتشاركي عبر مراحل، فلا تحصل المعرفة إلا بالإنتاج وحسن التصرف والتكيف، وهذا ما يحقق ارتقاء الفرد والجماعة ويطور أداءهما.
لهذا فثقافة المشروع جاءت لتدعو إلى بناء الأفراد المهرة القادرين على تنزيل أفكارهم على أرض الواقع. ولا شك تتأتى سعادة الأفراد من حجم المطابقة بين الأفكار والسلوك الواقعي.
لقد بدا واضحا من خلال ما سبق، أن المشروع، لم يعد يسعى في إطار المنظور التربوي الجديد القائم على الكفايات، إلى تكوين الناشئة على الاستهلاك وإعادة الإنتاج، لذلك شكل أحد أهم الرهانات التنموية التجديدية المطروحة في الساحة التربوية، “إذ يتعلق الأمر بالفعل، ببيداغوجيا انفصلت عن المدرس لتتمركز حول المتعلم وحول تحفيزاته ومنهجيته”.
وبعبارة أخرى، فلقد تم الانتقال من التعليم إلى التعلم … ومن المشروع الفردي إلى المشروع التعاوني وكذلك المشروع الجماعي؛ ذلك أن المشروع الشخصي لا يأخذ معناه الصحيح إلا ضمن علاقته بالمشاريع الأخرى، وكذلك علاقته بالأفعال المتعددة ذات الصبغة الجماعية”.
وإذا كنا لم نعرف المشروع وفق هذا المنظور إلا في النصف الأول من القرن العشرين، فإنه لا يمكننا أن ننفي كونه امتدادا لطريقة المشكلة التي سماها “وليام كلباتريك” “طريقة المشروع” .
وعرفها بأنها “تجربة ذات دوافع داخلية موجهة نحو هدف معين” ،وقد أشار إلى أن كل تعلم يخص مادة معينة كالحساب واللغات والاجتماعيات …، يصاحبه ميل أو إعراض يطلق عليه اسم “التعليم المصاحب” يؤثر في مآل عمليات الاكتساب وفي توجهاتها القريبة والبعيدة، باعتبار التأثير الوازن للاتجاهات والميول الانفعالية، على مختلف الاختيارات الدراسية والمهنية المستقبلية؛
هكذا، أصبحنا نتحدث عن فردانية التعليم وخصوصيته وارتباطه بقدرات المتعلم من جهة، وبتصوراته لما يأمل أن يكون عليه في المستقبل من جهة أخرى.
يعطي العمل بالمشروع إذن، معنى للتعلمات، إذ يسعى لتزويد مخرجات المدارس ومؤسسات التعليم والتأهيل، بأفراد نشطاء؛ والشخص النشيط بهذا المعنى، هو ذاك “الذي يتحمل مشاريع وينجزها ويؤثر في محيطه من خلالها.” ورغم تعدد أنماط الشخصية التي يجمعها القسم الواحد، من حيث هو تجمع “قريب من الصدفة لأفراد متنافرين داخل فضاء وفي إطار محدد” ،فإن التعلم بالمشروع يسعى لجعلهم قادرين على “إدراك العلاقات بين وضعية التعلم واستخدامها الممكن: ويحصل ذلك على مستويين: الأول شخصي، بحيث يتم اللجوء إلى ممارسات اجتماعية مرجعية، في إطار مشروع شخصي.
والثاني مهني، ينقل فيه هذا الاستعمال إلى مجال المشروع المهني [حيث يصبح المتعلم استراتيجيا (Stratège) نظرا للروابط التي يمكنه إقامتها بين وضعية التعلم من جهة ومشروعه الشخصي من جهة أخرى”.
وهكذا؛ فإن مساعدة المتعلمين ليكونوا استراتيجيين تقتضي أن ترتكز عا بيداغوجيا المشاريع على الد مات التالية:
- مناهج تربوية تشجع أنشطة البحث بطريقة الوضعيات -مشاكل.
- أدوات تنظيم مكتسبات المتعلمين المتحققة أو التي يجب تحقيقها بمرجعية الكفايات.
- إجراءات التوجيه التي يتعين القيام بها وفق مقاربة بيئية، وليس فقط المقاربة النفس-قياسية التي تنجز بالإحالة على اختبارات تدل المتعلم على المهنة المستقبلية، ولا بالمقاربة التفاعلية الاجتماعية التي تعتمد على تزويده بالمعلومات حول المسالك الممكنة، لاختيار طريقه اعتمادا على برنامج توجيهي.
يتم التأسيس لفكر المشروع في المؤسسة التربوية بطرق متعددة، تتكامل فيما بينها لجعل المتعلم يستشعر العلاقة التي تربط تعلمه بمشروعه الشخصي والمهني، وتتحدد في :
أولا: حل مشكلات التعلم داخل الفصل، إذ توظف الخبرات المعرفية والوجدانية والانفعالية لتجاوز الصعوبات والعوائق التي تطرحها التعلمات المقررة. ويتعلق الأمر “بمشاريع تعليم وتعلم مضمون غالبا ما يكون متضمنا في مادة مدرسية ومحددا في برامج مدرسية أيضا”.
ثانيا: مشروع الوحدة التعليمية، من حيث هو خطوة لاستخلاص النتائج، وخلق الوعي بالأهداف الوسيطة والنهائية لـ “توفير تعدد في المقاربات تستجيب لحاجات المتعلمين في أفق ..[]. مساعدتهم على النجاح وفق مستويات تحكمهم”.
ثالثا: المشروع الشخصي للمتعلم، وهو بهذا المعنى طريقة لدعم القدرات الاستراتيجية والميل الفطري أو المكتسب لمادة أو مجموعة مواد دراسية مقررة قد يؤدي تعزيزه إلى تحقيق هدف مهني مأمول.
رابعا: مشروع القسم، وهو انخراط جماعي في إنجاز يوحد اهتمامات مجموعة القسم، ويقوي اللحمة المفترضة بين أفراده عبر تحديد مسعى تعود نتائجه بالنفع على المستوى الذاتي والجماعي، يرسخ فيه المدرس مبادئ العمل التعاوني ويعزز روابط الانتماء للمجموعة.
خامسا: مشروع المؤسسة المندمج، على إعتباره أداة أساسية و مهمة “لأجرأة السياسات التربوية داخل كل مؤسسات التربية والتعليم والتكوين مع مراعاة خصوصيات كل مؤسسة ، وعلى البيئة الرقمية التي ُتعد ركيزة أساسية لتحقيق مجتمع المعرفة”.
ثانيا: المشروع الشخصي للمتعلم
2.1- تعريف المشروع الشخصي للمتعلم:
تكثر التعاريف حول المشروع الشخصي للمتعلم، فيأخذ بعضها معنى النشاط الموازي وحل المشكلات، ويأخذ البعض الآخر معنى أكثر شمولا؛ يتعلق بتعميق المعرفة بإمكانات الذات ومقاربتها لمتطلبات سوق الشغل.
إذ يعرفه لوي نوط (Louis Not) ” بأنه المسافة التي تفصل الحالة الراهنة ( Etat Actuel) للأشياء عن التصور الذي يقدمه الإنسان عنها [بوصفه سلوكا استباقيا]”.
وعليه فإن هدف المتعلم من التعلم والتكوين هو تقليص المسافة بين وضعيتين: وضعية راهنة و وضعية منشودة. وهكذا تستدعي هذه المقاربة إجراء قياس للقدرات، تضع أمام المتعلم مجموعة من التحديات والصعوبات التي يتطلب حلها، توظيف أفضل الإجراءات التدبيرية ما والتخطيطية والتقويمية، لحصول الرضى النفسي والاجتما عي.
ويمكننا ضم المشروع الشخصي للمتعلم، لباقي الإجراءات التنموية التي تنشد تجويد فضاء المدرسة وتحويله إلى مختبرات وفصول للتجريب والإبداع، ُيمنح فيها “كل فرد حقه في أن يتحكم في مصيره الخاص. ونموه، وحياته الخاصة، دون أن [يفقد] الوعي بضرورة الانخراط في الجماعة والتكيف معها … [ولعلنا نلاحظ أنه] غالبا ما يوفق الأشخاص الذين يمتلكون مستوى دراسيا معينا في مهنهم صا وحرفهم ومشاريعهم الاقتصادية وغير الاقت دية أكثر من أولئك الذين يتعاطون نفس المهن وهم لا يتوفرون على معرفة مدرسية” .
وهذا ما يجعل مساعدة المتعلم في إعداد مشروعه الخاص، أولوية من الأولويات، “تستوجب متابعة وتدخل كافة الأطراف المعنية من أجل طمأنة التلاميذ الذين يعانون من المشاكل.
يبرز رة بعدان في إطار هذه القد على الانخراط في المشروع. فمن جهة هناك عملية قذف جزء من الذات أمامها (Pro- jet) وارتماء (Se pro- jeter) داخل مستقبل غير محدد. ومن جهة أخرى، يعتبر المشروع نتاجا (Produit) ونتيجة (Résultat) لهذا القذف.
وبينما يعتبر البعد الأول وثيق الصلة بالشخص الذي يتعين عليه اختيار جزء من ذاته بغرض تطويره (فإذا ما رغب ُت مثلا أن أكون خبازا، فلأنني أريد إعطاء أهمية أكبر للعمل بالليل أو لرمز هذا العمل وهو الخبز، أو لأن التكوين في هذا المجال قصير الأمد إلخ…).
أما البعد الثاني، فيمكن أن ينفصل عن الشخص، (فأن يكون المرء خبازا، معناه أن يكون صانعا، يشتغل في ظروف معينة، تتحدد فيها المداخيل بكذا ..).. فقذف جزء من الذات كعملية، يندرج ضمن البحث عن الأصالة وضمن عملية الاستقلال الذاتي، كما أن المشروع المنجز يمنح لهذه العملية بعدها الاجتماعي”.
ومن التعاريف الرسمية، ما ورد في المادة 7 من القرار الوزاري رقم 062.19 بتاريخ 7 أكتوبر 2019 بشأن التوجيه المدرسي والمهني والجامعي: ” المشروع الشخصي للمتعلم هو “السيرورة التي ينخرط فيها المتعلم من أجل تحديد هدف مهني يطمح إلى تحقيقه، وتحديد المسارات الدراسية والتكوينية المؤدية إليه، وخطته الشخصية لبلوغه، وكذا الخيارات البديلة في حالة تعثره في الوصول إلى هذا المبتغى”.
أما الباحث عبد العزيز سنهجي، فقد استنتج تعريفا للمشروع الشخصي للمتعلم، تركيبا من تعريفات لبيداغوجيين ومهتمين بالموضوع من جوانب مختلفة؛ فـ” المشروع الشخصي هو خطة عمل يعتمدها المتعلم لتحقيق أهداف وأغراض محددة عن طريق توقعها وتوفير الوسائل اللازمة لبلوغها.
إنه تنبؤ استباقي لنتيجة مستقبلية، بهدف تحقيق غاياته ومطامحه ورغباته وحاجياته.
هذا الموضوع قد يهمك تحت عنوان “خطوات إرساء المشروع الشخصي للمتعلم حسب السلاك الدراسية” أنقر على الرابط أسفله لقرائته