في هذا المقال، سنتطرق إلى نشأة المالية العامة وتطورها حتى اصبحت علما قائم الذات. كما أن التحولات التي عرفتها لم تكن لتحدث عن معزل مفهوم الدولة الذي عرف بدوره تحولات عميقة ابتداء من الدولة الحارسة ومرورا بالدولة التدخلية ودولة الرفاه وانتهاء بالدولة المقاولة .
وقد عرفت المالية العامة بالمغرب بدورها تطورا كبيرا جاء كتنيجة حتمية للتحولات التي طرأت على مفهوم الدولة والتي تمخض عنها إصلاحات كبيرة مست مختلف القطاعات العمومية. وقد جاء الاصلاح الاخير للمالية العامة ليواكب الاصلاح الدستوري الذي غالبا ما يتبعه اصلاح مالي يتوج بإصدار قانون تنظيمي لقانون المالية.
كما أن هذا الاصلاح تأثر بدوره بالسياق الراهن الذي اصبحت فيه العولمة واقعا لا يمكن تجاهله. ومن هذا المنطلق، أصبح إصلاح المالية العامة بالمغرب تحت رحمة سيل عارم من المفاهيم الجديدية التي تفتقد إلى الطعم السياسي.
. وهو ما انعكس على السياسات العمومية المتبعة والتي لم يكن لها من خيار سوى التناغم مع التوجه اليبرالي الجديد
نشأة وتطور المالية العامة
لاستجلاء مختلف جوانب المالية العامة سيكون من المفيد أن نتطرق لمختلف المراحل الساسية التي ساهمت في تطورها وبجعلها تتبلور بشكل يضفي عليها الصبغة العلمية وإذا كانت المالية العامة قد عرفت تطورات عبر مختلف المراحل التاريخية المختلفة (المطلب الأول) فإن التطور الحديث للمالية العامة (المطلب الثاني يشكل منعطفا كبيرا على مستوى المقاربات التي تتناولها بالدرس
والتحليل
المطلب الأول : المراحل الأولى لنشأة قواعد المالية العامة
لا شك أن تدبير المالية العامة عرف مقاربات متعددة وتطورا ملحوظا خلال السنوات القليلة الماضية . وقد جاءت هذه التطورات في إطار مسلسل الاصلاح الذي عرفته المالية العامة ومختلف آليات التدبير الميزانياتي الذي فرضته التطورات السياسة والاقتصادية والاجتماعية المتسارعة في ظل العولمة السائدة.
وقبل أن يتبلور مفهوم المالية العامة في شكله الحالي لا شك أنه قطع عدة مراحل كباقي العلوم الأخرى، بدءا من العصور القديمة التي لم تعرف من المالية العامة إلا بعض القواعد البسيطة والمتناثرة والتي تشكلت في ما بعد وتطورت وكانت أساس المالية العامة كما هو متعارف عليها اليوم؛
وقد عرفت المالية العامة تطورا كبيرا اقترن بمراحل تاريخية محددة ترتبط ارتباطا وثيقا بولادة ونشأة مفهوم الدولة وكذا الوظائف التي تقوم بها خلال كل مرحلة من تلك المراحل. فمن البديهي أنه لا وجود لمالية الدولة قبل وجود الدولة ذاتها، وقبل هذا الوجود كانت هناك تجمعات عامة اتخذت شكلا معينا من أشكال التجمع كانت لها ماليتها نظمتها كل جماعة بحسب ظروفها الخاصة الخاضعة للأعراف والقواعد المنظمة لتلك لجماعة. فقد كانت الدول القديمة، البابلية في العراق و الفرعونية بمصر والإمبراطورية الرومانية تلجأ إلى فرض الجزية على الشعوب المغلوبة، وإلى عمل الأرقاء للحصول على موارد تنفق منها على مرافقها العامة؛ وقد عرفت مصر الفرعونية الضرائب المباشرة وغير المباشرة على المعاملات التجارية و نقل ملكية الأراضي. كما عرفت الإمبراطورية الرومانية أيضا أنواعا معينة من الضرائب كالضريبة على عقود البيع والضريبة على التركات.
أما خلال المرحلة الممتدة من العصور الوسطى وإلى حدود القرن التاسع عشر فقد ظل مفهوم المالية مستعصيا على الفكر البشري؛ إذ لم يستطع التمييز بين المال العام والمال الخاص وبقيت المالية العامة ردحا من الزمن مندمجة مع مالية الحاكم الخاصة ولا يمكن تمييزها عنهما. وكان هذا الغموض يؤدي في كثير من الأحيان إلى استيلاء الدولة على أموال الخواص وأملاكهم واستخدام الأفراد في القيام ببعض الأعمال العامة مجانا.
أما عن المالية العامة في الإسلام فقد عرفت تطورا ملحوظا خاصة مع ظهور الدولة الاسلامية حيث أصبح الحديث عن بيت مال المسلمين. وقد نظم الخليفة عمر بن الخطاب بيت المال ووضع هارون الرشيد قواعد مالية مستقرة في الجباية و الانفاق . غير أن تلك المالية لم تكن محددة الأبواب من نفقات وموارد وكانت موارد الدولة الاسلامية تعتمد على تبرعات الصحابة للإنفاق منها على الفقراء والمساكين. ويمكن إجمال مختلف الموارد في الزكاة و الغنائم والجزية..
أما البوادر الفعلية لتشكيل المالية العامة فقد تزامنت مع الحركات الشعبية والتطور الصناعي وخاصة الثورة الصناعية في إنجلترا والثورة الفرنسية اللتين كان لهما الأثر الأكبر في ذلك. وقد بدأت توضع له مؤلفات مثل كتاب آدم سميث «ثروة الأمم» لمونتسيكو.
المطلب الثاني : التطور الحديث للمالية العامة
وإذا كانت المالية العامة قد عرفت تطورات عبر مختلف المراحل التاريخية فإن التحولات التي عرفتها في ظل العولمة كانت سريعة جدا وأثرت في مفهومها الذي اتخذ ابعادا أخرى تتميز بالتداخل بين مختلف المجالات والعمليات التي أصبح فيها دور كبير للفاعلين على المستويين الوطني والدولي.
غير أن الإلمام بالمالية العامة والإحاطة بها ظل يعتمد على بعد واحد كان ذو صبغة قانونية في مرحلة أولى وأضحى اليوم له بعد اقتصادي وتدبيري ويتجلى هذا من خلال خضوع قراري الانفاق واستخلاص الموارد المجموعة من المتغيرات الطارئة التي لا يمكن التحكم فيها من قبيل النمو الاقتصادي والمطالب الاجتماعية إضافة إلى السياق العالمي الذي أصبح يشهد تحولات كبيرة ومتسارعة تنطوي على كثير من المخاطر.
كل هذه المسائل ساهمت بشكل كبير في التطور الحديث للمالية العامة وما يميز هذه المرحلة هو سيادة مقاربتين متعارضتين ؛ تتجلى الأولى في المقاربة الكلاسيكية المستمدة من تقليد قانوني وديموقراطي يغلب فيه عامل الكفاءة السياسية في تنظيم وعمل السلطة المالية من خلال إعطاء دور أكبر للمنتخبين؛ وقد نتج عن تطابق مفهوم المالية العامة مع التشريع المالي الحرص على مشروعية العمليات الميزانياتية دون اعتبار فعالية التدبير.
أما المقاربة الثانية، وهي حديثة العهد، فهي تجعل من المنطق التدبيري أساسا لها وتعطي الأولوية للمتطلبات الاقتصادية من خلال تغليب عامل الخبرة التقنية لدى أصحاب القرار.
أن التعارض بين هاتين المقاربتين سيحتد أكثر مع أزمة دولة الرفاهية من خلال ارتفاع الاصوات التي تنادي بالفعالية عوض الاقتصار على التطبيق الصارم للمشروعية والتمسك بالتطبيق الحرفي للقانون دون استحضار البعد التدبيري. ومن نتائج تراجع دولة الرفاهية ضرورة تخفيض العجز المالي وبالتالي ضرورة التحكم في النفقات مما أدى إلى انفتاح التدبير العمومي على ثقافة نجاعة الأداء .
وقد تأثرت المالية العامة بشكل مباشر بالتغيرات التي طرأت على مفهوم الاقتصاد – أي تحريره – انطلاقا من النصف الثاني لسنوات 1970. وقد كانت المفاهيم الاقتصادية في صلب التغيرات التي جاءت نتيجة للانتقادات التي تم توجيهها للتفسيرات الكينيزية التي تدافع عن مفهوم الدولة التدخلية .
وقد شملت هذه التغيرات القانون العام في شموليته حيث تأثر بدوره بشكل مباشر بالنموذج الاقتصادي الجديد الذي أدى إلى الانسحاب التدريجي للدولة من تسييرها للمرافق العامة والنهوض بالقطاع الخاص والتعاقد . وفي هذا السياق، بدأ الفرق بين الدائرتين العمومية والخاصة في التقلص وأصبح التمييز بينهما يفقد شيئا فشيئا معناه التقليدي. مما أدى إلى إعادة النظر في الاطار المفاهيمي القائم.. وفي النهاية، ظهرت مفاهيم جديدة من قبيل الحكامة و الفعالية والنجاعة والشفافية في التدبير المالي. وأصبحت إشكالية حكامة المالية العامة تنصب على نوع العلاقة بين ما هو سياسي وما هو تدبيري .
بعبارة أخرى أصبح الاهتمام منصبا أكثر على الجوانب التقنية عوض الرهان على المبادرة البرلمانية كما كان الحال سابقا. وبهذا تم الانتقال من أسلوب التدبير المالي بالوسائل إلى التدبير المرتكز على النتائج