1. تدبير الموارد البشرية خلال القرن 19
تميزت مرحلة القرن 19بظهور مكثف للمجتمع الاقتصادي المبني على التصنيع وهو أساس المجتمع الحديث، وقد ادى هذا التوجه في التصنيع الى التعويض الجزئي والمستمر للعمل اليدوي بالعمل الالي الميكانيكي مع ما يطرح من مشاكل في تدبي اليد العاملة.
وفي هذا الصدد يقول ريو(Rioux J.P) “للمرة الاولى في التاريخ ، يتم تحرير القدرة الانسانية حيث تقوم الاقتصادات بتوفير الموارد و الخدمات بشكل وافر لأعداد متزايدة من الاشخاص”
وقد أحدث هذا التطور الاقتصادي (التصنيع) تغيرا في مفهوم العمل، حيث اعتبر عند بعض المنظرين نشاط انساني بالأساس يساهم في ابراز قدرات الانسان وامكاناته في تغيير ظروف عيشه،
ونذكر منهم ميدا (D Méda) حيث اكدت ان العمل ” يساهم في تغيير العالم وتحفيزه وأنسنته وفي نفس الوقت يساهم في تغيير الفرد حيث يتيح له تحيين امكاناته الحالية والمستقبلية وإبرازها واخراجها الى الوجود”
وفي نفس السياق تم تشجيع العمل الفردي والمبادرات الحرة. مما شكل النواة الاولى لخلق المقاولات والشركات الحرة المبنية على مبدأ الربح والمغامرة(Risque).
وفي الفترة الممتدة 1760و 1800بدأ ما يسمى بمفهوم اقتصاد النظام (économie de système) وهو يرتكز على المبادئ التالية:
• تشكل المدينة محور العملية الاقتصادية حيث يعمل المقاولون والتجار على تزويد المشاغل (ateliers) بالقرى والمداشر المجاورة بالمواد الاولية اللازمة للانتاج ثم تجميع وفرز وتدقيق المنتوج النهائي وانصف النهائيمع الحرص على احترام اجال التوصيل، حيث ان المقاول يتحكم اساسا في جودة المنتوج، وآجال تسليمه، وليس في الانتاج.
• يقوم الاجراء والعمال الذين لا يتوفرون على ضيعات او مشاغل “مربحة” بالعمل مؤقتا لدى المقاولين في ضا والتجار ودعم القدرة الانتاجية لمشاغلهم بغية تحقيق دخل اضافي.
وقد عرفت المؤسسات الكبرى في مجالات المناجم وانتاج الحديد والنسيج تكتلات كبرى للأجراء حيث وصل عددهم الى 9000 اجير في بعض الاحيان، مما فرض على مسؤولي هذه الشركات ضرورة جعل هذه الموارد البشرية منضبطة وطيعة ومستقرة.
من هنا جاءت فكرة كتيب الاجير (livret d’ouvrier) سنة .1803وهو يعتبر سيرة مهنية تلاحق الاجير طيلة مدة وجوده بالشركة ولم يتم التخلي عنه الا مع بداية 1890 .
كما شكلت تطورات التدبير في قطاعات السكك الحديدية والقطارات اللبنة الاولى لبناء النموذج الحديث في تدبير الموظفين ، (Personnel) وفي هذا الصدد يشير ريبيل ( Ribeill, G) و كارون ( Caron,F) الى ان هذه الشركات اضطرت الى التطور وخلق نموذج لتدبير مواردها ومنها الموارد البشرية،
حيث واجهت تحديات كبرى في الجوانب المالية (استثمار رساميل كبرى) و التقنية (اللجوء للمهندسين) و التدبيرية في جانب الموارد البشرية حيث وصلت اعداد العاملين في هذه الشركات الى 138الف سنة ،1869ومن اهم مساهمات هذه الشركات نجد :
- توظيف مسؤولي الشركة من بين خريجي مدارس المهندسين؛
- تشغيل الاجراء العمال من طرف زملائهم ذوي تجربة عالية وغنية في المجال، وقد تم تحديد مساطر التشغيل في هذه الشركات عند نهاية 1868؛
- يتم تدبير هذه الشركات بشكل مركزي مبني على الاحترام التام للسلم الاداري والمساطر المقررة؛ وقدخلقت لدى كل وظيفة امكانية للترقي مبنية على الاقدمية وفق تقارير واراء مكتوبة من طرف الرئيس المباشر، كما احدثت تعويضات مرتبطة بالوظيفة؛
- يتم ضمان استقرار الشغل لعدد معين من الاطر والمستخدمين التي اثبتت كفاءتها وأهميتها للشركة وشكلت فئة الاطر العليا (المهندسون) أغلبية هذه الفئة حتى حدود سنة 1921؛
1.1- مرحلة المنظمات الكبرى: عقلنة تدبير الموارد البشرية وظهور وظيفة “المستخدمين” :
عرفت هذه الفترة تزايد هاما في توظيف الموارد البشرية، حيث وصلت أعدادها بالنسبة للشركات الفرنسية الكبرى ( رونو وميشلان وسيتروين) 32000 مستخدم سنة .1931 وفي نفس الفترة برزت فئة “المهندسين” كفئة مهنية ذات خبرات تقنية وتمكنت من التطور في سلم المسؤولية داخل الشركات الكبرى .
وقد بدأ منذ العشرينيات تيار عقلنة الشغل مما أثر بشكل كبير على مفهوم الاستقلالية المهنية حيث كتب ميريم ( Merrheim) في هذا الصدد ما يلي: ” تم طرد الذكاء من المشاغل والمعامل حيث لن يبقى فيها سوى الادرع بدون أدمغة”
وأخيرا تم إحداث عناصر بناء “مجتمع الاجراء” حيث ظهر “عقد الشغل” في قانون 27 دجنبر .1972 كما مكن إحصاء 1896من تحديد “فئة العاطلين” عن العمل للمرة الاولى. وابتداء من سنة 1936سيتم بشكل محتشم وجزئي إدماج ” العامل البشري” في “وظيفة المستخدمين”.
لقد ظهرت “مصالح الموظفين ” بشكل أولي منذ سنة 1874بشركات شنايدر حيث عهد لها بتشغيل وتوزيع اليد العاملة على مشاغل الشركة.
وفي شركات انتاج السيارات، تم تعيين مسؤول مركزي عن التشغيل بعد إضرابات العمال سنة .1906 وفي نفس السنة أحدثت شركة شنايدر مديرية مكلفة بالموظفين.
وقد أدى التوظيف الضخم للموارد البشرية وضمان استقرارها الى قيام الشركات الكبرى بإحداث مصلحة خاصة بالتوظيف والتعيين.
كما شكلت الحرب العالمية الاولى منعطفا هاما في تدبير المورد البشري بادماج البعد الاجتماعي حيث تطلب “مجهود الحرب ” عقلنة العمل لضمان رفع الإنتاجية، وكذلك تشجيع التعاون والتشارك الاجتماعي عبر ادماج التيار النقابي في تحفيز العمال خلال الحرب.
وقام سيتروين( Citroen, A) بإحداث مصلحة للتمريض تضم طبيبا ومصلحة لطب الاسنان ومطعما يسع لــ 3500 أجير. وفي المقابل توقع هذا المصنع ارتفاع الانتاجية وتحقيق إشهار لشركته.
تطورت مهام واختصاصات مصالح الموظفين والأجراء بشكل ملحوظ سنة 1936 خصوصا في شركات إنتاج السيارات. كما شهدت نفس الفترة توجها نحو تعيين مسؤولين ذوي تكوين عال في هذه المصالح. ومن المميزات العامة لنموذج تدبير الموارد البشرية خلال هذ الفترة نجد :
- مواصلة محاولة توحيد المهن والوظائف؛
- التنظيم الاداري والبيروقراطي للعمل؛
- محاولة تجديد طرق تدبير الشركات والموارد البشرية؛
كما نجد تيارات واتجاهات كبرى أثرت بشكل كبير في هذا النموذج ومنها:
- التركيز؛
- العقلنة؛
- المهننة؛
وعموما فقد شهدت هذه الفترة تطورا لمصلحة الموظفين واعترافا بوجودها وأهميتها داخل الشركات الكبرى. لكن هذا التطور لازال محدودا حيث ان الفاعلين الحقيقيين داخل الشركات الكبرى لا يزالون لا يعترفون بأهمية وفاعلية ومحورية المورد البشري داخل المؤسسة.
1.2 – العولمة والتكوينات الحديثة: إعادة بناء تدبير الموارد البشرية:
تعد سنة 1973 نهاية لحقبة ما يسمى بالسنوات الثلاثين المجيدة (les trente Glorieuses) و هي سنة «الصدمة أو الازمة البترولية الاولى ” (حرب أكتوبر 1973كمرجع) وقد أدت الى تباطؤ النمو الاقتصادي ونهاية فترة الازدهار وبالإضافة الى هذا بدأ المنتوج الاقتصادي التايلوري بالأفول. وأخيرا بدأت مفاهيم جديدة بالظهور مثل العولمة (Globalisation) أدت الى منافسة أحد على المستوى العالمي.
وبالموازاة مع ذلك عرفت تكنولوجيا الاتصال والتواصل خلال هذه الفترة طفرة كبرى ساهمت في خفض تكاليف التواصل والنقل. وقد تبين خلال هذه الفترة ان الازمة الاقتصادية العالمية ليست عابرة مما يستوجب محاولة التكييف معها خصوصا في مجال تدبير الموارد البشرية.
وقد نتج عن هذه الوضعية تغيرات عميقة همت المفاهيم الاقتصادية المتداولة وطرق تدبير الشركات الكبرى (Firma) ومن أبرز هذه التغيرات ما يلي:
– تمدد الشركات الكبرى داخل السوق: أصبحت الشركات تتنظم على شكل نواة (التخصص الانتاجيوالقرارات الاستراتيجية) بينما تم تفويت أغلب الأنشطة الى شركات أخرى في اطار تخريج الخدمات (الصيانة،الحراسة، النظافة)… وقد شمل هذا التفويت في مرحلة ثانية عض الأنشطة ذات الاهمية مثل المحاسبة والافتحاص والتواصل.
– ولوج البعد التجاري الى قلب المنظمة: لقد ظهرت انماط حديثة لتدبي العمل مثل التعاقد حولاهداف معينة والعمل بالمشروع. مما شكل تجاوزا للأنماط المعهودة التي كانت تربط الأجير ” الموظف بالشركة”. وقد ظهرت على إثر ذلك قيم جديدة مثل المسؤولية والاستقلالية والمشروع والأهداف وتفويض الاختصاصات واللاتمركز/ اللامركزية….
وامام هذه التحولات التكنولوجيا الكبرى والمتسارعة، كان لازما على الشركات الكبرى رفع التحدي التالي: جعل الشركات تنافسية وفعالة مع الحفاظ على التجانس الاجتماعي لمواردها البشرية المختلفة
1.2.1- التغيرات الكبرى
يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- مصلحة تدبير الموارد البشرية أكثر استراتيجية من ذي قبل، اذ أنها أصبحت تؤثر في السياسة العامةوالاداء العام للشركة؛
- مصلحة شهدت تعديلات وتغيرات على مستوى الكم والكيف، حيث تم تجميع وتركيز وتقليصمختلف البنيات الخاصة بتدبير الموظفين، كما شهدت هذه البنيات تطورات مثل خلق بنيات عمودية تضم مجموعات نعمل على مشاريع المنظمة؛
- مصلحة موجهة الى الخدمة والاعمال فقد تدخل المصلحة المكلفة بتدبير الموارد البشرية في علاقاتمهنية مع مسؤولي الشركة والمساهمين والموارد البشرية في حد ذاتها؛
- مصلحة تواجه تحديات كبرى أهمها العولمة المتزايدة
1.2.2- النماذج الكبرى لتدبيرالموارد البشرية
يمكن تجميع هذه النماذج في الجدول التالي: