نبني التدبير الديدكتيكي على مجموعة من الإجراءات والتقنيات وأساليب التدريس، التي يتم من خلالها الربط بين الكفايات والمحتويات، وسائر الأنشطة التعليمية التعلمية وصيغ التقويم ربطا منظما وهادفا.
وبعبارة أخرى.إن التدبير الديدكتيكي هو قدرة ومهارة على إدارة التعلمات وبنائها؛ انطلاقا من مدخلات واضحة ودقيقة، وإجراء جملة من العمليات الناتجة عن تفاعل عناصر الفعل التعليمي وتكاملها، للوصول إلى مخرجات ونتائج فعلية؛ مما يفرض توفير معطيات وموارد تناسب مستوى المتعلم؛ حتى يستطيع معالجتها بوعي وإغناءها بمعارف وتعلمات جديدة.
في هذا السياق، يقول التباري نباري: “يتطلب التدبير السليم للفصل وضوحا في الأهداف المنشودة من التعلمات لدى طرفي العملية التعليمية التعلمية؛ فالمدرس يكون على دراية بما يريد تحقيقه، وبأي أدوات ووسائل، وبالشروط والظروف اللازمة للوصول إلى تلك الانتظارات.
أما المتعلم فيتعين عليه أن ينطلق في تعلمه من انتظارات واضحة أيضا؛ عليه أن يعرف النتائج التي يسعى إلى بلوغها، وما ينبغي عليه فعله للوصول إليها؛ وكيف يؤدي عمله، وما معايير التفوق والإتقان الكفيلة ببلوغ الأهداف والتوقعات”.
ولأن التدبير الديدكتيكي يعنى أساسا ببناء وضعيات تعليمية تعلمية في مادة من المواد الدراسية؛ فإن هذا العمل يفرض على المُدرس المُدبر أن يستحضر طبيعة كل مادة دراسية وخصوصياتها على حدة، من حيث مكوناتها وأسسها المعرفية والمنهجية، ومبادئ تدبيرها.
إن التدبير الديدكتيكي بناء مهاري ومنهجي ومعرفي للدرس، وتنزيل على أرض الممارسة الصفية، يفعل من خلال وضعيات التعليم والتعلم التي يراعى أثناء إنجازها وتنفيذها كل العناصر الفاعلة فيها، والسياقات المواكبة لها أيضا.
وتتأثر عملية التدبير الديدكتيكي بالموقف التعليمي الذي يكون فيه المدبر؛ لأن تنفيذ الدروس يشكل مرحلة مهمة في الفعل التربوي، تعكس كل أشكال التفاعل والتواصل بين المعلم وتلاميذه وموضوعات التعلم، فهو يتأسس على أدوار وعلاقات وتفاعلات عدة، ولهذا تتأثر الممارسة الصفية للمدبر بجملة من المتغيرات والعوامل الذاتية والموضوعية، ُتحتم على المدرس أن يستخدم كل المهارات والإمكانات والوسائل المتاحة، بطريقة فعالة من أجل تحقيق الأهداف والكفايات المسطرة.
من هذا المنطلق “ينصب التدبير الديدكتيكي على تنظيم مختلف العمليات الديدكتيكية في وضعيات إشكالية بسيطة ومعقدة، سواء أكان ذلك في الأقسام الصفية الأحادية أم الأقسام الصفيةالمتعددة والمشتركة” .علاوة على ذلك يتطلب تنفيذ الوضعيات التعليمية التعلمية جملة من المهارات والتدابير التدريسية الخاصة، خصوصا في زمن التدريس بالكفايات الذي يؤسس لمدرسة البناء والفعل والمشاركة وانفتاح الذات على محيطها.
وتتحدد أهداف التدبير الديدكتيكي في:
- أجرأة الكفايات على أرض الممارسة الصفية من خلال أنشطة منجزة وأداءات تعلمية؛ تبعالوضعيات تعليمية تعلمية متنوعة ومتكاملة في الآن نفسه؛
- بناء وضعيات ديدكتيكية إجرائية في شكل مراحل أو مقاطع تعليمية تعلمية، تتضمن أنشطة المتعلم والمعلم وصيغ التقويم في سياق معين
أولا: التدبير وفق المقاربة بالكفايات
بناء على ما جاء في الميثاق الوطني للتربية والتكوين المتضمن للفلسفة التربوية، تستند المقاربة البيداغوجية التي اختارها المغرب من أجل تربية متعلميه، وبناء قدراتهم المعرفية والمهارية والقيمية التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية والاجتماعية، والارتقاء بهم إلى أعلى درجات التربية والتكوين؛ إلى مدخل الكفايات الذي ينبني على خمس كفايات ممتدة هي: الكفايات الاستراتيجية والتواصلية، والثقافية، والمنهجية، والتكنولوجية. لهذا تعد الكفايات وسيلة للتكيف مع المحيط.
تعتبر المقاربة بالكفايات نهجًا شاملاً يستهدف تطوير شخصية المتعلم بشكل متكامل، حيث تجمع بين البعد المعرفي والبعد العملي الأدائي. تُعزز هذه المقاربة تنمية مجموعة متنوعة من المهارات والمعارف التي تمكن الطلاب من التفاعل بنجاح في الحياة اليومية ومواجهة التحديات الواقعية. تهدف إلى تمكين الطلاب ليصبحوا فاعلين وقادرين على التصرف بثقة وحكمة في مواقف متنوعة، سواء داخل أو خارج بيئة التعلم التقليدية.
تعتمد هذه المقاربة على استغلال الموارد التعليمية المتاحة، سواء داخل المدرسة أو في البيئة الخارجية، لتعزيز قدرات الطلاب وتنمية مهاراتهم بشكل شامل.
والمقاربة بالكفايات مقاربة منفتحة على مقاربات بيداغوجية عدة، لكونها تساعد على التحكم في الموارد وفي تصريفها، كما تعمل على تركيز الأنشطة على المتعلم؛ حيث تتمحور كل الأفعال والأداءات والممارسات الصفية حوله؛ بوصفه فاعلا أساسيا في العملية التعليمية التعلمية.
أشار الكتاب الأبيض إلى مجالات كبرى ترتبط بالكفايات هي: الكفايات المرتبطة بتنمية الذات، والكفايات القابلة للاستثمار في التحول الاجتماعي، والكفايات القابلة للتصريف في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية .وهناك الكفايات المتعلقة بالمواد الدراسية والكفايات المستعرضة.
هذا يدفع إلى التأكيد على أن الكفاية هي القدرة على العمل وحسن التصرف بشكل فاعل خلال مواجهة جملة من الوضعيات المشكلة والتحديات، وذلك بتوظيف المعارف والموارد التي تسعف في حلها.
تتأسس المقاربة بالكفايات إذن؛ على جملة من المبادئ، حددها المنهاج الجديد بدقة ووضوح تامين، تتجلى في مبدإ البناء ومبدإ التوظيف ومبدإ التكرار ومبدإ الإدماج.
هذا التوجه التربوي يُعتبر اختيارًا مدروسًا يهدف إلى تعزيز تجربة التعلم للطلاب ووضعهم في مركز الاهتمام والتفكير خلال عملية التدبير الديدكتيكي. يعتمد هذا التوجه على نظام متكامل من المعارف والمهارات والمواقف التي تمكن الطلاب من التعامل مع سيناريوهات تعلم محددة بكفاءة.
يهدف هذا التوجه إلى تعزيز تطوير الطلاب وتمكينهم ليصبحوا متعلمين نشطين قادرين على مواجهة تحديات التعلم بثقة وفعالية.
والكفاية هي “قدرة المتعلم على تعبئة مجموعة من الموارد المناسبة، داخلية: (معارف، مهارات، مواقف…) وخارجية: (وثائق، وسائل، أدوات، مصادر.).. لحل وضعيات-مشكلة أو إنجاز مهام مركبة في سياق معين؛ بشكل ناجع”
وبناء على ذلك؛ يمكن بيان أهم الخصائص المميزة للكفاية من خلال الجدول التالي:
في سياق المقاربة بالكفايات، تحول التدريس من نموذج يركز على الشخص الذي يُعلم إلى نموذج يركز على الشخص الذي يتعلم. بدلاً من التركيز على الأسئلة حول محتوى المعرفة وكيفية تقديمها،
يتم التركيز على فهم طرق وعمليات التعلم لدى الأفراد وتكييف الطرق التعليمية وفقًا لذلك. لذلك، تتطلب المقاربة بالكفايات استخدام أساليب تعليمية حديثة وتفاعلية، تشجع على مشاركة المتعلم بنشاط واستغلال خبراته وجهوده في معالجة مختلف السيناريوهات التعليمية. من خلال هذا النهج،
يمكن تحقيق تغييرات ملموسة في مجال التعليم والتدريب، إذ يتم التحول من تركيز العملية التعليمية على الأستاذ إلى التركيز على عملية تعلم المتعلم.
- ويستند هذا الاختيار البيداغوجي إلى جملة من المرتكزات التدبيرية، يمكن إجمالها في:
- خلق شخصية متكاملة، وذلك بمراعاة أبعادها المختلفة أثناء إنماء الكفاية والتدبير الديدكتيكي؛
- ربط الجسور بين المواد الدراسية؛• التكوين بدل التلقين؛
- عقلنة الفعل التربوي، بهدف إكساب المتعلم الآليات والمهارات التي تمكنه من حسن التصرف.
- جعل المتعلم محور كل عمليات التعليم والتعلم.
إن هذا الاختيار البيداغوجي يرى أن عملية تدبير التعلمات ومهارات التدريس، تجعل من المتعلم محور العملية التعليمية والتعلمية؛ وذلك بالانطلاق من رغباته وحاجاته، والمرور ببناء قدراته وتنمية كفاياته بجميع أبعادها التواصلية والمعرفية والمنهجية والثقافية والاستراتيجية التي ترسم مواصفات المتعلم الذي نصبو إلى تكوينه، فيكون مؤهلا بقوة وعزيمة، وعن اختيار للانخراط الفاعل والإيجابي في مجتمعه، والإسهام في بنائه وتطويره.
ومن ثم يكون قادرا على مواجهة تحديات عصره ومتغيراته، برؤية علمية ومنهجية واضحة، وحس نقدي يعلي من شأن السلوك الإيجابي والقدرة على الفعل والاختيار.
من أجل ذلك “يلزم تفعيل المنهاج الدراسي، وفق مدخل الكفايات، مع الانفتاح على مختلف الصيغ التطبيقية والأساليب البيداغوجية التي أثبتت نجاعتها في إرساء مبادئ هذه المقاربة في ميدان التربية والتكوين، وخاصة تلك التي تتوفر على الانسجام النظري والتماسك المنهجي. وفي هذا الإطار ينبغي ترصيد كل ما راكمته المدرسة الوطنية من ممارسات تربوية وتدريسية مجددة”.
طرحت المقاربة بالكفايات رهانات عدة؛ كرهان المعنى؛ حيث التساؤل عن علاقة المناهج والبرامج الدراسية بالحياة ومجال الشغل، وراهن النظام التربوي المغربي على تخريج كفاءات مؤهلة للاندماج في الحياة بصفة عامة.
كما تستحضر المقاربة بالكفايات أيضا رهان الذكاء بوصفه أساس كل عمليات التكيف مع المحيط والحياة المدرسية، فهناك ذكاءات متعددة، يجب أن ننظر إليها بوصفها معطى غنيا ومفيدا في الفعل التعلمي، ولا ننسى كذلك أن بيداغوجيا الكفايات تراعي مبدأ القيم، وتراهن على بث روح المواطنة داخل المدرسة وفي الممارسة الصفية ،ولا شك أن هذا سيسهم في تخليق الحياة العامة والرقي بها.
تؤسس هذه المقاربة إذن؛ لمنظور تعليمي جديد مفاده أن “التعلم هو مجموع لمسارات امتلاك معارف جديدة، وتخزينها بطريقة أكثر ملاءمة، مع إجراءات تحليلها، وإعادة تأليفها وصياغتها بقصد استعمالها (وإذا التواصل بها) فيما بعد”.
إن التدبير وفق المقاربة بالكفايات يجعل من وضعيات التعليم والتعلم والأنشطة المتصلة بها مرتكزة على أفعال المتعلم بوصفه فاعلا أساسيا في العملية التعليمية التعلمية.
ووفق هذه المقاربة تحددت مبادئ التعلم؛ بوصفه نشاطا ذهنيا ومعرفيا في التعلم الذاتي، الذي يتطلب توفير شروط علمية مناسبة كالمساءلة والبحث والاستكشاف؛ وفق قواعد التفكير العلمي ومناهجه، وتوفير وسائط ووسائل تعزز التواصل والتفاعل في عملية بناء التعلمات التي ترتبط بفعل التصرف المنعكس على شخصية المتعلم بكل جوانبها.
وبما أن التدريس بالكفايات يقوم على علم النفس المعرفي؛ فإنه تدريس يهدف إلى بناء كفايات لدى المتعلم واستكشافها وإثارتها؛ عبر أنشطة وإنجازات ملموسة من خلال سيرورة تعليمية، تقتضي توفير معطيات مناسبة ومركبة للمتعلم، تحفزه على معالجتها بشكل واع من أجل بناء معارفه وتعلماته،
انطلاقا من وضعيات تعليمية تعلمية واضحة مخطط لها قبلا، تختبر قدرات المتعلمين ومهاراتهم وعملياتهم الذهنية؛ لأن الكفاية تبقى مكتسبا ذاتيا غير مرئي، لا يمكن ملاحظته إلا من خلال إنجازات المتعلمين في تخصص معرفي معين ،وعلى هذا الأساس تبقى الكفايات نموذجا مستبطنا ومبنيا داخليا، لا يلاحظ إلا من خلال إنجازات وسلوكات المتعلمين والقدرة على الفعل والتصرف.
ويرتكز التدبير الديدكتيكي وفق المقاربة بالكفايات على مبدإ الكيف، وعلى أنشطة المتعلم لا على أنشطة المدرس، وعلى التنظيم المحكم والهادف للنشاط التعليمي والوضعيات التعلمية. ويتعين بذلك التخلي عن منطق الصدف والعشوائية والعفوية لأن التعلم نشاط ذهني يقوم على مسارات معرفية متنوعة ومنتظمة وإجراءات كيفية مضبوطة.
مع المقاربة بالكفايات، يتحول الدرس إلى مجموعة من الوضعيات المعقدة والمشاكل المتنوعة التي يجب على المتعلم التعامل معها باستخدام المهارات التي يمتلكها بشكل مناسب وفعّال لتحقيق الأهداف المحددة.
يتحول دور المدرس في هذا السياق إلى دور مرشد ووسيط، حيث يقوم بتهيئة الوضعيات التعليمية وطرح المشاكل المعقدة التي يتوجب على المتعلم حلها.
ومع مدخل الكفايات صار التعلم إجراءات كيفية، يتطلب التدبير المبرمج المتحكم فيه، ويحتم إشراك المتعلم في البناء المعرفي أيضا؛ حيث يتبع مجموعة من الخطوات والإجراءات التي تبدأ ببسط الإشكالات والتحديات، وتنتهي بحلها من خلال تعبئة مجموعة من الموارد، وممارسة كل أشكال التدخل والفعل والتعلم.
من أجل ذلك رسم اختيار التدريس بالكفايات للمعلم المدبر مجموعة من المحددات والضوابط في ممارسته الصفية؛ إذ الأنشطة التعليمية ينبغي أن:
- ترتبط بالأهداف والمنتوج التعلمي؛
- تكون منظمة تنظيما محكما وهادفا؛
- تكون دافعة إلى التفكير والتعلم الذاتي؛
- يشارك المتعلم في بنائها وتنفيذها وتقويمها؛
- تمد الجسور بين المضامين التعلمية التي تتدرج حسب المنطق الداخلي لكل مادة دراسية؛
- تراعي الفروقات الفردية بين المتعلمين وخصوصياتهم العقلية والنفسية والنمائية؛
- توظف في عملية بنائها مختلف الطرائق والتقنيات الحديثة والوسائل التعليمية
يؤهل التدريس بالكفايات المتعلم إلى الفعل والإنجاز والتصرف الواعي، بالإضافة إلى تعزيز قدرته على التحويل والتكيف مع البيئة المدرسية والحياة اليومية. يتطلب ذلك اتباع نهج ديداكتيكي مدروس يجعل الأنشطة التعليمية ذات معنى ومغزى للمتعلم، حيث يشعر بأنه يكتسب معارف ومهارات ستساعده في حل مشكلاته اليومية. هذا يجعل المعرفة حية وعملية، وتستمد حيويتها من الوظائف التي يمكنها أدائها.
بالتالي، يمكن لتدريس بالكفايات مساعدة المتعلمين في حل مختلف مشكلاتهم اليومية بفاعلية.
ينطلق التدبير الديدكتيكي القائم على اختيار المقاربة بالكفايات من تحديد الكفاية النهائية التي تبقى منطلقا وغاية، فكل مادة دراسية تهدف إلى الإسهام في تكوين شخصية المتعلم والمتعلمة، بمختلف أبعادها، كما يستحضر الأهداف العامة التي تنبثق من منطق كل مادة دراسية في التعليم الابتدائي ووظيفتها.
ويلزم اختيار المضمون أو المحتوى الذي يحققها وتنظيمه، وانتقاء الأنشطة التعليمية التعلمية التي يجب أن تنجز بالتدرج، ثم يبدأ بناء الدرس في المقاربة بالكفايات وينطلق بتوظيف تمثلات المتعلمين و مهاراتهم وتشخيص مكتسباتهم السابقة، ليفسح المجال أمامهم للتعلم بالمبادرة والاستكشاف والخطإ والتجارب الحية، ثم يعرض المشكل أو الموقف العائق أمام المتعلمين،
فيتدخل المدرس بمجموعة من التوجيهات والإرشادات تحفز المتعلم على التفكير في تجاوزه وحله، ثم الخروج باستخلاصات واستنتاجات تعلمية، وكأننا أمام تعلم تجريبي متمحور حول الشخص المتعلم، بحيث يكون نتيجة نهج استقرائي يقوم على مبدإ الفعل والاستمرارية، فيكون التعلم آنيا ووليد التعلمات والتجارب السابقة، ويقوم أيضا على النظر إلى المتعلم بوصفه كائنا حيا يوجد في علاقة مع محيطه وبيئته.
كل ذلك سيشجع المتعلم على الانخراط الفاعل في عملية التعلم على أساس مواجهة المشاكل والقضايا التي تطرح أمامه تحديات معرفية ومنهجية، كل ذلك يفرض تعبئة مختلف الموارد والمعارف الضرورية لحل المشاكل والعقبات التي تعترضه في عملية التكوين والاكتساب.
وهكذا فإن التدبير وفق المقاربة بالكفايات سيكون له بالغ الأثر، إذا مكن المتعلم من الالتزام والاندماج في البحث عن الأفكار ومعرفة كيفية توظيفها، وأكسبته مهارات الملاحظة والتجريب والتقصي والتمحيص والمشاركة الفعالة بدل الإنصات والتلقي السلبي، وبهذا تجمع المقاربة بالكفايات بين البحث عن الأفكار وآليات توظيفها واستثمارها.
من خلال هذه المرتكزات السابقة؛ فإن عملية التدبير الديدكتيكي لابد أن تراعي مبدأ عاما، وهو أن الكفايات معطى غير ثابت؛ فهي “تتطور، وتنمو بفعل التعلم وتملك المهارة، وتترسخ بفعل التحكم في المهارة بدقة وتملك الخبرات الكفيلة بتوظيف الكفاية في وضعيات جديدة، وقد تتعرض الكفاية للتراجع بفعل توقف التعلم والتدريب مما يؤدي إلى افتقاد المهارات والخبرات الضامنة لاستمراريتها.
لهذا يؤطر التدبير الديدكتيكي مع مدخل الكفايات مبد أ الانتقال منطق المادة إلى منطق المنهاج الدراسي الذي يعطي أهمية كبرى لبناء الكفايات لبلوغ المواصفات التي يقتضيها ملمح التخرج في نهاية سلك التعليم الابتدائي، وهو ما يتطلب مد الجسور بين المواد الدراسية.
راعت هذه المقاربة البيداغوجية في جوهرها أمرين اثنين، يجعلان الكفاية مرتبطة بمجموعة من المعارف في سياق معين، وبالقدرة على الفعل والإنجاز وحسن التصرف. علاوة على ذلك تستند المقاربة بالكفايات إلى فعل ديدكتيكي قوامه اكتساب المعرفة واستخدامها وتوظيفها في سياقات مختلفة،
مما يفرض حسن التدبير والتنظيم المحكم للأنشطة التعليمية التعلمية الذي يمر بمراحل متدرجة ومداخل معينة ويحفز المتعلم على اتخاذ مسارات وإجراءات معرفية أثناء التعلم، وإلى التكيف مع سياقه،
ليرتقي المتعلم إلى درجة اكتساب الكفايات والمهارات العليا، تجعله يشعر بالاستقلالية والثقة بالنفس، وتجعله قادرا على اتخاذ القرارات المناسبة ومواجهة مخت ِلف التحديات، ومن ثم فالأنشطة التعليمية التعلمية تكون لها قيمة تربوية؛ إذا هيأت المتعلم للاحتكاك بالواقع والاندماج في الحياةفي هذا السياق يحتاج بناء الكفاية إلى مسار تعلمي متدرج ومتسلسل وبنائي ووظيفي،
ينطلق من حال استدعاء الموارد المختلفة المصادر، ثم دمجها في وضعيات جديدة، واتخاذ قرارات مناسبة من أجل حل المشكلات وتجاوز حالة اللاتوازن، لتؤشر فيما بعد الإنجازات وأداء الأنشطة بفعالية على تحقيق الكفاية المنشودة.
يستند التعلم وفق المقاربة بالكفايات إلى حسن استثمار المعارف القبلية للمتعلم، واستخدام المهارات الموجودة لديه، والتي تتطور وتنمو عبر محطات مبرمجة في المجال المعرفي والمهاري والوجداني، لهذا يتعين مراعاة ميولات المتعلم وتوجهاته، حتى ُيو َضع في صلب الفعل التربوي، لأن المعرفة هي وليدة للوضعية التعليمية التعلمية، وتنبثق من السياق التعلمي.
وبما أن تحقيق الكفايات يمر عبر مسار تكويني وتعلمي، فهذا يدعو إلى القول إن التعليم والتعلم فعلان يتسمان بالحركية والتطور؛ لهذا راعت هذه المقاربة البيداغوجية أمر تنزيلها ضرورة المرور بالتدريس عبر المجزوءات والوحدات الدراسية، بحكم أن العملية التعليمية التعلمية مركبة ومعقدة، تعترض وتيرَتها مجموع من العوائق تشوب سيرورة التعلم،
تتطلب التوجيه و التصحيح والتعديل والدعم والمعالجة، ومن ثم تقليص الفوارق الفردية بين المتعلمين، ودعم مشروعاتهم الشخصية، مع تنويع التجارب التعلمية داخل الفصل الدراسي، ولا شك أن التدبير و فق هذا المنظور سيعزز حافزية المتعلم ويطور مهاراته.
وبهذا المسار أعادت بيداغوجية الكفايات الاعتبار للمتعلم؛ بوصفه محورا فاعلا يبني المعرفة ذاتيا، فجميع الأنشطة تقوم على مركزيته، وأفسحت له المجال لاكتشاف طاقاته وكفاءاته، فتكون له القدرة على توظيفها، فهي بيداغوجية تتمحور حول المتعلم بوصفه عنصرا بانيا لمعرفته بنفسه، وليس متلقيا َسلبيا لمواضيع خارجية قد تكون بعيدة عن مجالات اهتمامه، بل على النقيض من ذلك،
فهو يؤسس معرفته ويبني كفاياته نتيجة نشاطه وتعلمه الذاتي؛ والذي هو حصيلة لتفاعل المعارف والمكتسبات السابقة وجملة تمثلاته مع موضوعات التعلمات الجديدة، وهي نتيجة الإدماج الوظيفي والفعال للتعلمات والمواقف والمهارات في السياقات التي تطرح مشكلات للمتعلم.
بهذا الأسلوب، يتم تطوير قدرات المتعلم الذهنية. المقاربة بالكفايات قامت بتحقيق قفزة نوعية في مجال التعليم والتدريب، حيث ساهمت في تطوير منهجية تربوية تعزز معارف ومهارات وقدرات المتعلمين، بما في ذلك دمج التكنولوجيا الحديثة في الفصول الدراسية، وتشجيع المشاركة الفاعلة للمتعلم في بناء المعرفة.
كما أحدثت تغييرات في الفكر التربوي والبيداغوجي، حيث غيرت المفاهيم التقليدية حول عمليات التعلم، مثل بيداغوجية المعرفة والنموذج والسلطة والجهد والفردانية والجزاء، مما أدى إلى تطوير سيناريوهات تعليمية جديدة تعزز دور المتعلم وذاتيته في عملية التعلم.
خلاصة القول إن “التدريس وفق المقاربة بالكفايات يقوم على مساعدة المتعلم على التحكم في مجموعة من الموارد و المهارات، تكون حاسمة في تحديد المشكلات وحلها، وتدريبه على حشدها في وضعية معينة،وفي إعداد القرارات واتخاذها.
ومن ثمة لا يمكن حصر المقاربة بالكفايات في إطار نموذج بيداغوجي في واحد للتعلم، بل هي مقاربة حاضنة لمختلف الممارسات المساعدة على التحكم الموارد، ومنفتحة على بيداغوجيات وظيفية داعمة تشكل بدرجات متفاوتة إطارا مرجعيا لأجرأة المقاربة بالكفايات”.